إختلف العديد من المعماريين المصريين مع فكر المعمارى الراحل حسن فتحى واتهمه البعض بالتخلف لأنه يتعامل مع مادة الطين ولا يساير الحركات المعمارية المتقدمة فى العالم مع ان العالم كله قد كرمه كما لم يكرم معمارى عالمى آخر من قبل ولا من بعد. ورحل حسن فتحى ورحلت معه رسالته عن عمارة الفقراء. هذه الرسالة التى لم يأخذ بها أحد فى مصر ولم يعن بها مسئول مثل ما عنيت بها المؤسسات الأجنبية فى أوروبا وأمريكا غربا، وفى الهند وباكستان شرقا ودول أفريقية جنوبا … واستمر المعماريون المصريون يتطلعون إلى الغرب ينتظرون منه الفكر الجديد والانجاز الفريد، فارتبطت بذلك العمارة المصرية بعجلة الغرب الحضارية .. فلا يتقدم المعماريون المصريون خطوة إلى الأمام إلا فىأعقاب روادهم فى الغرب بوصفهم الأعلى قدرا والأقدر فكرا، وبدأ المعماريون الأجانب يغزون السوق المعمارية المحلية من خلال القروض التى تمنحها دولهم لمصر وترك لهم العنان يتسابقون على المشروعات المعمارية فى مصر ويفوزون بها بطبيعة الحال دون اعتراض من المنظمات المعمارية المصرية، لقد انبهر المعماريون المصريون كما انبهرت منظماتهم فى لجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة وجمعية المهندسين المعماريين انبهورا بالتصميم المعمارى لمكتبة الاسكندرية الذى فاز به المعمارى النرويجى وحكمها المعمارى الأمريكى مع غيره من معمارى الغرب وقدموا لمصر رمزا معماريا مدفونا تحت الأرض ليقاوم المياه والسيول هذا فى الوقت الذى بات فيه أكثر من عشرين مكتبا استشاريا مصريا كانوا قد اشتركوا فى المسابقة ولم يفز أحد منهم بجائزة باتوا ينعون حظهم التعيس بعد أن فقدوا فرصة للعمل فى بلدهم وإزداد بذلك إحساسهم بالإغتراب والاكتئاب. لقد كان أكرم للمعماريين المصريين أن يصمم المكتبة واحدا منهم خير من أى معمارى أجنبى حتى ولو كان أكثر إبهارا وابتكارا… وتتكرر الصورة فى مشروعات أخرى كثيرة يبدأها المعماريون الأجانب وينهيها ذووهم من العمال وما ينقلونه من المواد والتجهيزات المستوردة.
ولم يصبح الاغتراب هنا اغترابا فنيا أو معماريا بقدر ما هو اغتراب اقتصادى واجتماعى أيضا … وعندما حاول المرحوم الدكتور أحمد قدرى رئيس هيئة الآثار السابق أن يعطى المعمارى المصرى فرصة عمره فى تصميم متحف الحضارات بأرض المعارض بالجزيرة طرح مسابقة تصميمية بين المعماريين المصريين فى مسابقة قام بتحكيمها لجنة من الأجانب والمصريين معا وتم ذلك بالتعاون مع هيئة اليونسكو … وفاز بها أحد المعماريين المصريين وانتهى من إعداد التصميمات التنفيذية للمشروع الكبير وما لبث هذا المعمارى المصرى أن يقدم مستندات التنفيذ حتى وجد من ينحيه عن العمل بسبب ظهور الحاجة فجأة إلى الموقع المخصص للمشروع وذلك بحجة توفير مساحة كبيرة لمواقف السيارات بجوار دار الأوبرا الجديدة التى صممها اليابانيون وقد يكون السبب هو بناء فندق جديد فى هذا الموقع الفريد وراح المسئولون عن وزارة الثقافة يبحثون عن موقع آخر للمتحف الجديد فى مكان آخر بالقرب من الهرم الأكبر تبركا واعتزازا بمصريته وتاريخه الطويل. وانتقل رئيس الجمهورية إلى الموقع الجديد ليبارك المشروع الجديد. وبعد هذه الزيارات أذاعت وزارة الثقافة بيانها الحضارى بدعوة الايطاليين للقيام بإعداد دراسات الجدوى للمشروع الجديد من خلال منحة قدرها ثلاثة ملايين دولار تقدمها إيطاليا لمصر لوجه الله والتاريخ ومحبة فى التراث المصرى العريق مع ان خبراء اليونسكو سبق أن قاموا بإعداد هذه الدراسات التى كانت بمثابة البرنامج المعمارى للمتسابقين من المعماريين المصريين فى الجولة الأولى، ثم جاء القرار التالى لوزارة الثقافة بطرح المشروع فى مسابقة دولية تحكمها لجنة دولية ليفوز بها فى النهاية الأكثر إبهارا وابتكارا من المعماريين الأجانب وتضيع بذلك فرصة المكتب المصرى الذى فاز بالمشروع الأول … وتضيع الفرصة الثانية أمام المعماريين المصريين ليصابوا مرة أخرى بالاغتراب والاكتئاب وحجة الوزارة فى ذلك أنه لا حساسية فى مثل هذه المسابقات المعمارية فهى تطرح بين المعماريين فى دول أوروبا وقد يفوز دانمركى بمشروع فى باريس ويفوز فرنسى بمشروع فى ألمانيا ولكن الوزارة قد أغفلت أن الوضع فى مصر يختلف اختلافا جذريا .. فأوروبا دولة واحدة مكونة من دول متقدمة يجمعها وضع حضارى وثقافى واحد أما الحال بالنسبة لمصر فمختلف تمام الاختلاف فلمصر تراثها الحضارى المعروف ولها جذورها الثقافية المتميزة وتحركها ظروف اقتصادية واجتماعية خاصة .. فالحجة هنا واهية … وبعد كل ذلك تقف المنظمات المعمارية فى مصر من هذه الحجة دون اعتراض أو احتجاج مؤكدين بذلك موافقتهم على الاستعانة بالمعماريين الأجانب حتى ولو كان ذلك على حساب المعماريين المصريين الذين لا يجدون فرصة يتقدمون بها أو يتعلمون منها ويطوروا من أنفسهم بعدها.
ومما يزيد من سخرية القدر أن تنطلق نفس الصيحة من نفس المصدر تدعوا إلى إنشاء طيبة الجديدة عند قرية القرنة فى الضفة الغربية للنيل أمام مدينة الأقصر فى صعيد مصر… ويهبط اسم طيبة العاصمة ليطلق على قرية يصفها المصور نفسه بأنها سوف تكون عملا معماريا مميزا وسوف تبنى فى شكل فيلات لكل منها حديقة خاصة… وسوف تطرح القرية الجديدة فى مسابقة أخرى دولية أو يصممها المعماريون الايطاليون أصحاب الحظوة هذه الايام … ويضيع فى هذه المظاهرة اسم المرحوم حسن فتحى وتضيع رسالته وأسلوبه الذى بنى به قرية القرنة القديمة والتى أصابها ما أصابها … وهكذا يدفن اسم حسن فتحى بدلا من تكريمه بإطلاقه على اسم القرية الجديدة، والعجيب فى الأمر انه ما ان سمع المعماريون فى الغرب بذلك حتى ثارت ثورتهم ورفعوا كتاب حسن فتحى ” عمارة الفقراء ” على أسنة الرماح ينعون الفكر الذى أهدر والاسم الذى أغفلته الثقافة المصرية حتى لا يظهر مرة أخرى على الساحة الحضارية لمصر فى عصر الاغتراب الفكرى والفنى والمعمارى.
وعندما أقبل المعماريون المصريون على اكتشاف الامكانيات الثقافية لمنطقة باب العزب بمنطقة القلعة وقطعوا فى دراستها شوطا كبيرا يفاجئون بعد ذلك بأنهم قد استبعدوا عن العمل دون إبداء الأسباب وحل محلهم الايطاليون مرة أخرى ويتعرض المعماريون المصريون للإهانة مرة أخرى دون أن تحميهم المنظمات التى ينتمون إليها وعندما أدلى بعضهم من قبل برأيه فى مشروع هضبة الأهرام عند أبى الهول مستندين فى ذلك باللوائح والقوانين الدولية وبآراء الآثاريين فى الجامعات وباعتبار أن المشروع مشروعا قوميا يفاجأون بأنهم قد استبعدوا من الساحة الثقافية ليحل محلهم من وصفوا كلمات الوزير بأنها كالموسيقى وتلجأ وزارة الثقافة بعد ذلك إلى الخبراء الايطاليين لاستجداء تأييدهم ضد آراء المعماريين المصريين الذين لم يعد لهم حول ولا قوة.
وتستمر مسيرة الاغتراب على أرض مصر فيما يخططه ويصممه المعماريون الأجانب من فنادق ومستشفيات وبنوك ومبانى عامة وكأن مصر قد خلت من أبنائها المعماريين من أحفاد من شيدوا الأهرامات وبنوا الحضارتين الفرعونية والإسلامية هذا فى الوقت الذى نسمع فيه بين الحين والآخر صيحات الاعتزاز بالماضى الحضارى والتغنى ” المصريين أهم أهم ” فأين هم فى المجالات المعمارية … تعالوا نشهد ما يشيده الأجانب لنغنى ” الأجانب أهم أهم ” فى مبنى دار الأوبرا … فى مبنى قاعة المؤتمرات الدولية … فى مبانى شركات البترول … فى مكتبة الاسكندرية … فى مبنى بنك مصرالجديد … فى فنادق مصر الكبرى … فى الوحدات الصحية … فى الأحياء الشعبية فى تخطيط بعض المدن الجديدة. فى إنشاء المصانع. وإذا توجهنا إلى الناحية الأخرى لا نرى من إنجازات المعماريين إلا فيما يقام من أبراج وعمارات وإسكان شعبى ومبانى عامة لا ارتباط لها بالتراث الحضارى لمصر. والمعماريون المصريون بذلك يعبرون عما أصابهم من اغتراب فرضوه على أنفسهم بعد أن رفضوا فكر حسن فتحى وتنكروا لرسالته وتمسحوا بالمعماريين الأجانب الذين ما دأبوا يهزأون بإنتاج المعماريين المصريين، وهكذا يتعاون المعماريون الأجانب والمعماريون المصريون معا فى العمل على الاغتراب الثقافى للعمارة المصرية وهكذا تفقد المدينة المصرية بذلك شخصيتها الحضارية ومقوماتها السياحية وتفتقد الدولة كذلك مصدرا من مصادر الدخل من النقد الأجنبى. فلم تعد الآثار هى المصدر السياحى الوحيد فهى تمثل 10% فقط من رغبات السياح أما الباقون فيسعون إلى زيارة المجتمعات الحضارية ذات التقاليد الخاصة والشخصية الحضارية المميزة ويتجنبون المجتمعات التى تنقل عنهم العمارة أو الموسيقى أو الزى. لقد أصبح التميز الحضارى مصدرا هاما من مصادر الاقتصاد القومى ولم يعد ترفا ثقافيا بل حاجة ملحة من حاجات الشعوب. إذا كانوا فى الأمس قد قالوا ” اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى” فنرجوا ألا يقولون غدا” اللى بنى مصر كان فى الأصل طليانى” … عجبى.
لقد حان الوقت لأن يحاول المسئولين عن الثقافة والتعمير فى مصر إعادة الوجه الحضارى للمدينة المصرية فى كل ما يقام فيها من مبان عامة كانت أو خاصة. وذلك بوضع المعايير التصميمية التى تتناسب مع النوعيات والمستويات المختلفة من الأعمال المعمارية كما حان الوقت لأن تراجع الدولة نظام جوائزها فى المجالات الثقافية والمعمارية. فالعمارة عند المجلس الاعلى للثقافة فن وعند المجلس الاعلى للعلوم هندسة، الأمر الذى يؤكد عدم إدراك المسئولين بطبيعة العمل المعمارى كفن وهندسة معا بل يزيد عليه البعد الاجتماعى والاقتصادى، الأمر الذى يجعل للعمارة وهى أم الفنون مفهوم خاص متعدد الجوانب ويجدر أن يخصص لها جائزة أو جوائز كما هو الحال فى كل الدول المتقدمة أو على غرار جوائز منظمة المدن العربية أو جائزة منظمة الأغاخان للعمارة الإسلامية أو جائزة الملك فهد للعمارة، ومصر هى مهد الحضارات جديرة بأن يرون فيها جوائز للإنتاج العلمى والعملى فى العمارة سعيا لحث الجهات والأفراد على العمل لإضفاء الصورة الحضارية على المدينة المصرية فى عصر نصفه بعصر النهضة. على أن يتقدم لجائزة الدولة التقديرية فى العمارة كل معمارى قادر سواء بنفسه أو بترشيح المؤسسات العلمية له وذلك حتى تتاح الفرصة أمام جميع المعماريين فى مصر وذلك من خلال نظام محكم يتم على مراحل حتى لا تتعرض الجائزة للطفيليين من الوصوليين والمنافقين أو تخضع للاعتبارات الشخصية وللأقدمية المطلقة، الأمر الذى يسىء إلى قيمة الجائزة نفسها سواء على المستوى المحلى أو العربى أو العالمى هذا هو السبيل لانقاذ العمارة المصرية من الاغتراب الثقافى.