ظل حسن فتحي المعماري العبقري الفذ مؤرقاً طوال حياته بمشكلة أشبه بمشكلات الثوار العظماء وهي توفير المسكن الصحي والرخيص لأفقر الفقراء من المصريين وربما لفقراء العالم أجمع، وقد أبدع حسن فتحي طريقة ومنهجًا معماريًا يمكّن الفقراء فعلا من أن تكون لهم بيوت متينة وواسعة وجميلة، وهذا باستخدام أبسط المواد المتاحة في البيئة المحلية وتبعًا للتراث الشعبي المحلي للعمارة في هذه البيئة.
وقد توصل لذلك حسن فتحي بالربط الخلاق المبدع بين التراث المعماري الشعبي والمعماري الهندسي العلمي، وقد أثبت حسن فتحي صحة نظرياته وواقعيتها حينما بنى الكثير من البيوت والقرى في مصر، وغيرها من بلدان العالم التي بهرت كل من رآها بمتانتها وجمالها. ومع هذه المهمة الجليلة التي كان المفترض أن يقوم بتشجيعها كل من يصادفها انقلبت الموازين وصار حسن فتحي وعمارته يحاربان بضراوة من قبل اتحاد من الحكومات التي تعادي الفقراء، ومن المقاولين الانتهازيين وتجار مواد البناء وحتى من المعماريين الأكاديميين الذين تجاهلوا أفكاره ومنعوا تدريسها في أقسام العمارة بالجامعات المصرية.. وهكذا مات حسن فتحي دونما أن يحقق شيئًا حلم به للإنسان، خصوصًا الإنسان الفقير.
ومنذ أكثر من عام نظمت الجامعة الأمريكية بالقاهرة معرضًا تذكاريًا لمختارات خاصة من أرشيف حسن فتحي الذي آل إليها. برغم التنسيق الذي كان عليه المعرض والأبهة التي أحاطت به والدقة والعناية الفائقة في عرض رسوم وكتب أرشيف حسن فتحي -كان التساؤل الملح: لماذا تُرك هذا الأرشيف الهائل الذي يحوي كل فكر حسن فتحي مترجمًا في محاضرات وأبحاث وكتب ورسوم ومخططات يذهب إلى الجامعة الأمريكية وهي هيئة غير مصرية وذات طبيعة نخبوية؟! وكيف تُرك هذا الأرشيف الذي يعد تراثًا قوميًا يذهب لهيئة غير قومية؟!! ألم تكن هناك أي هيئة قومية سواء كانت تابعة لوزارة الثقافة أو ممثلة في إحدى الجامعات المصرية أو جمعية المهندسين المصرية أو جمعية المعماريين المصريين لتحفظ هذا الأرشيف حتى يكون متاحًا للدرس على المستوى القومي وللأجيال القادمة من المعماريين لتأمل هذه العمارة الفريدة والتتلمذ عليها للنهوض بها وتطبيقها في يوم من الأيام؟! هل كان التفريط من أسرة حسن فتحي أم من مؤسسات وهيئات الدولة؟!
حسن فتحي .. التجاهل حياً وميتاً
تقول السيدة سعاد حمدي -ابنة أخت حسن فتحي- والتي كانت تشرف على بعض أعمال حسن فتحي في نهاية حياته: الآن يتم التساؤل عن حسن فتحي وأرشيف حسن فتحي؟! لقد سعينا منذ أن مات حسن فتحي في عام 90 بكل جهدنا لأن تقوم وزارة الثقافة بإقامة متحف لحسن فتحي في البيت الذي كان يسكنه في درب اللبانة بالقلعة، ليكون هذا المتحف حافظًا لتراثه وأرشيفه ويتمكن جميع الدارسين للعمارة وغيرهم من الباحثين من الاطلاع على هذا الأرشيف والاستفادة منه، خاصة أنه أرشيف مهول يتجاوز ما فيه من أوراق ورسومات معمارية (40 ألف) ورقة، هذا بالإضافة إلى الكتب الخاصة بحسن فتحي والعمارة بشكل عام، والصور الفوتوغرافية واللوحات والشرائح المصورة. لكن وزارة الثقافة لم تعط لرجائنا آذانًا صاغية أبدًا، بل بدلا من ذلك طالبتنا بإخلاء البيت بعد زلزال (93) بحجة الترميم، ومع ذلك لم تقم بالترميم حتى الآن، وفيما بعد رفضت رفضًا باتًا استلام أرشيف حسن فتحي بحجة أنها ليست لديها الإمكانيات لحفظه.
وتضيف السيدة سعاد حمدي: في هذه الأثناء تقدمت منظمة الأغاخان التي كانت على علاقة مستمرة بحسن فتحي والتي كانت تقدر جهوده المعمارية باقتراح أن تقوم بتأسيس “معهد حسن فتحي للتكنولوجيا المتوافقة” الذي يدرس فيه فكر وعمارة حسن فتحي، وبالتالي يتم حفظ هذا الأرشيف في المعهد، وأن تتكفل المنظمة بكل نفقات إقامة المعهد وحفظ هذا الأرشيف، على أن يكون مقر المعهد في جنيف حيث مقر الفرع الرئيسي للمنظمة أيضًا، لكن تبعًا لوصية حسن فتحي ألا يخرج أرشيفه من مصر رفضت الأسرة هذا العرض، واشترطت على منظمة الأغاخان تأسيس المعهد في مصر، ولكن البيروقراطية الحكومية في مصر جعلت المنظمة تغض عن الفكرة تمامًا. وتضيف السيدة سعاد: وكنا قد قمنا بتخزين الأرشيف في صناديق؛ مما كان يهدده بالتلف والتحلل فلجأنا مرة ثانية إلى وزارة الثقافة، ولكن في إصرار عجيب رفضت أيضًا وزارة الثقافة تقديم أي عون بحجة عدم وجود إمكانيات.
وفقا للبروتوكول
ويقول د. عاصم فتحي – ابن أخ حسن فتحي- وهو أستاذ لعلوم الطيران بهندسة القاهرة: بعد وزارة الثقافة لجأنا إلى جامعة القاهرة ممثلة في الجامعة نفسها وفي كلية الهندسة فرفضت كل منهما حفظ الأرشيف بنفس حجة وزارة الثقافة (ضعف الإمكانيات المادية والفنية) فلجأنا إلى جامعة حلوان وكلية الفنون الجميلة التي ظل حسن فتحي يدرّس في قسم العمارة فيها لسنوات طويلة، ومع ذلك لم تهتم جامعة حلوان أو كلية الفنون بتراث حسن فتحي، ورفضت حفظ الأرشيف لعدم وجود إمكانيات.
ويضيف د. عاصم: وهكذا لم نلجأ إلى الجامعة الأمريكية إلا بعد رفض كل الهيئات المصرية التي عرضنا عليها حفظ الأرشيف، وبعد أن كادت أوراق الأرشيف يصيبها التلف والتحلل من التخزين السيئ. وردًا على المخاوف التي يمكن التساؤل بشأنها من كون الأرشيف آل إلى الجامعة الأمريكية يقول د. عاصم حسن: لا يجب أن نكون حذرين أكثر من اللازم ونتشدق بالوطنية دون أن يكون هناك معنى لذلك، فنحن تبرعنا بالأرشيف ليحفظ بالجامعة الأمريكية وفق برتوكول يشترط الحفاظ على الأرشيف وعدم خروج محتوياته خارج مصر، وإتاحته للدارسين.. فماذا بعد ذلك؟؟ الجامعة الأمريكية صرفت إلى الآن ما يزيد عن (100) ألف دولار على حفظ الأرشيف، في الوقت الذي كان الجميع في مصر لا يهتم ولا يقدر قيمة الأرشيف. ويضيف د. عاصم: حالنا محزن، ليس بالنسبة لحسن فتحي وأرشيفه فقط بل لكل ما له قيمة لدينا، كنت قريبًا في أبي سنبل ورأيت مدى الإهمال والإهدار الذي ينال من الآثار هناك.
وتقول د. نوال حسن -من أسرة حسن فتحي، وكانت مديرة لأعماله لفترة طويلة-: كانت هناك عروض كثيرة لنقل أرشيف حسن فتحي خارج مصر، كانت هناك عروض معهد روما للعمارة، واقترحوا إقامة مركز تعليمي لعمارة حسن فتحي. وكانت لدينا عروض في فرنسا (مركز جورج بمبيدو) ولكن الأسرة أصرت على أن يبقى الأرشيف في مصر؛ لأن حسن فتحي لم يكن مجرد مهندس معماري بل كان مفكرًا وفيلسوفًا إنسانيًا، وأوراقه التي تركها قيمتها غالية جدًا لأنها تحتوي على أفكاره ومذكراته وأعماله الإبداعية المختلفة. والجامعة الأمريكية حاليًا تعد من هذه الأوراق عدة كتب لنشر أفكاره وفلسفته.
أفضل مكان!
جمال عامر أحد تلاميذ حسن فتحي المتميزين والذي صمم ونفذ أخيرًا مركز الخزف الإسلامي بمدينة الفسطاط، وكان على نسق عمارة حسن فتحي، يقول في تعليقه على عدم حفظ أرشيف حسن فتحي لدى أي هيئة قومية وانتقاله إلى الجامعة الأمريكية: أمر مؤسف طبعًا ألا يحفظ أرشيف حسن فتحي لدى هيئة قومية، ولكن من ناحية أخرى يجب القول: إن الأرشيف في الجامعة الأمريكية ربما يكون أفضل؛ لما سيلاقيه من عناية وحفظ وصيانة على أسس علمية بحكم أن لديها الإمكانيات لذلك. ويضيف المعماري جمال عامر: أقوم الآن بتكليف من وزارة الثقافة بإعادة ترميم قرية حسن فتحي “باريس” بالوادي الجديد، وربما استطعنا أن نقيم متحفًا صغيرًا لحسن فتحي يضم بعض رسوماته أو مستنسخات من هذه الرسومات.
المعماري عصام صفي الدين تلميذ آخر من تلاميذ حسن فتحي النابهين يقول: كنت قد تحدثت إلى الوزير فاروق حسني بشأن إقامة متحف لحسن فتحي، وقد وعد سيادته بأن يخصص مكانا في باب العزب بالقلعة ولكن لم يتحقق من ذلك شيء. وعن وجود الأرشيف بالجامعة الأمريكية يقول المعماري عصام صفي الدين: إنه كان يجب حفظ الأرشيف لدي هيئة قومية مصرية، ولكن دائمًا يشهرون في وجوهنا عدم وجود الإمكانيات، ونأمل أن يكون الأرشيف في الجامعة الأمريكية نواة لمجهود طويل لنشر فكر وعمارة حسن فتحي.
نحفظه وفقًا لأحدث الأساليب
ويقول مستر فليب كروم مدير مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة التابعة للجامعة الأمريكية: أرشيف حسن فتحي آل للمكتبة عن طريق تبرع الأسرة بحقوق حفظ الأرشيف للجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقد كان هذا في عام 1994، وقد بدأنا العمل الفعلي في تنسيق الأرشيف منذ سنة 97 بتمويل من شركة “ألجاتي جراند” وهي شركة بترول عالمية، وقد وصل التمويل الذي تبرعت به “ألجاتي” لصالح الأرشيف إلى 87 ألف دولار، وقد استنفدت جميعها في أعمال حفظ الأرشيف وأضيف إليها مبالغ أخرى، وهنا هيئة من المعماريين تشرف على الأرشيف، والجامعة تسمح لكل الهيئات والدارسين بالاطلاع والنسخ من الأرشيف والاستفادة الكاملة منه متى أرادوا.
ويضيف مستر فليب: ومن المخططات المستقبلية للجامعة الأمريكية إقامة معهد التكنولوجيا المتوافقة الذي يدرس فيه منهج حسن فتحي في العمارة، وسيكون ذلك في فرع الجامعة الجديد، بالقطامية والذي من المقرر أن ينتهي العمل فيه بعد 5 سنوات.
الطرف الآخر
حول غياب اهتمام المؤسسات الثقافية والجامعات وجمعيات المهندسين المصرية وجمعية المعماريين بحسن فتحي وتراثه المعماري سألت د. يحيى الزيني أستاذ العمارة بكلية الفنون الجميلة، رئيس شعبه العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو مجلس إدارة جمعية المعماريين المصريين فأجابنا بحدة وانفعال واستنكر سؤالنا له وقال: أرشيف حسن فتحي ذهب إلى الجامعة الأمريكية بموافقة الأسرة فلماذا السؤال إذن؟! ثم قال: جامعة القاهرة رفضت الأرشيف وكذلك جامعة حلوان، أما جمعية المعماريين فكان صعبا أن تقدم أي شيء لحسن فتحي لأن أعضاءها كانوا دائمًا على خلاف معه؛ نظرًا لإحساسهم أنه يتعالى عليهم أمام جمعية المهندسين المصرية فأنا لا أعرف عنها شيئًا؟ واستأنف: هي معنية بالمهندسين الميكانيكيين والكهرباء وليست لها علاقة بالمعماريين، فقلنا له: حينما آل أرشيف حسن فتحي للجامعة الأمريكية كان يترأس الجمعية د. مصطفي الحفناوي وهو من المهندسين المعماريين، وقد تولى الهيئة العامة للبناء والإسكان، هذا فضلا أن من رأسوا هذه الجمعية في العشرينيات كانوا من المعماريين، وعلى رأسهم المهندس الرائد مصطفى باشا فهمي، بل إن الجمعية كانت قد جعلت حسن فتحي رئيسًا شرفيًا لها لعدة أعوام.. ومع ذلك ومع توفر الإمكانيات المادية لديها لم تهتم بحفظ أرشيف حسن فتحي ونشر تراثه؟!