“وفي مارس عاد الغجر، هذه المرة كانوا يحملون منظارا وعدسة مكبرة في حجم “طبلة”، وقد عرضوا المنظار والعدسة كآخر مكتشفات يهود أمستردام، لقد أجلسوا امرأه غجرية في أحد أطراف القرية ونصبوا المنظار عند مدخل خيمتهم، ونظير خمسة ريالات كان يحدق الناس في المنظار ويرون الغجرية وقد صارت بين أيديهم..ويصرخ مكليادس: إن العالم قد محا المسافات..وخلال فترة قصيرة سيتمكن المرء من رؤية مايحدث في أي جزء من العالم دون أن يغادر منزله”..
ذلك ماقاله غابرييل غارسيا ماركيز في(مائة عام من العزله)….وقد كان!!..
بل قد تجاوز الأمر ذلك وغدونا أسري لما نعت “بعصر الصورة”، كما أسماه “أبل جانس”، ونعيش في “حضارة الصورة” كما وصفها الناقد الفرنسي “رولان بارت”،..سبقت الصورة الكلمة، فوثقت للفعل، أختزلت المسافات، وامتزجت الثقافات، وغدا هنالك حد أدني للمعرفة، تجاوز حدود جغرافيا المكان وجغرافيا السياسة، صعب لقاؤه الإستناد للفكر التعبوي السجالي القانع برؤية واحدة تقتفي أثرها الجموع!!..
علي أن تلك الحقيقة وبحسب:”فريد الزاهي” في مقدمة ترجمته لكتاب:”حياة الصورة وموتها” لريجيس دوبريه (2002) تكاد تصطدم بإشكالية مفادها: أن مباحث الصورة في العالم العربي “تعاني الضعف والوهن؛ لقاء هيمنة اللغوي علي البصري، والتعقد المنهجي الذي تفرضه مقاربات الصورة بمختلف أنواعها وأنماطها في حقل الثقافة العربية المعاصرة”..بيد أن رؤية “الزاهي” تلك يمكن إعتبارها طرحا نظريا يتجاوز حدود الموضوعية، حال الإقتراب من حقيقة الهوة أو الشرخ الذي يوثق للفرقة بين رؤية العالم العربي كأنظمة، تحكمها أيدلوجيات لم تتجاوز بعد حدود منتصف القرن الماضي، وبين شعوب روضت أجسادها علي التعايش مع فرضيات واقعها الذي صنع لها، وحلقت عقولها بعيدا تقتفي أثر وأثار صرخة “مكليادس”…فإن أتفقنا علي أن حراك العقل هو الباعث للحضور فلا مناص من العودة لحتمية نبذ التعبوي والسجالي.
وقد يقتضي الأمر لقاء ذلك دقة التفرقة بين الأنظمة وأدواتها، وبين الشعوب وعقلياتها؛ حال التعرض لما ورد بكتاب”المرايا المقعرة” لعبد العزيز حمودة؛ تحت عنوان:”ثقافة الشرخ” علي لسان سيد البحراوي: “..لم يعد هناك مشروع ثقافي(حتي للتبعية)، وإنما أدوات إجرائية تسعي لنقل التقنيات التي تتصور أنها قادرة علي حل مشكلات الواقع المصري، وهذا لب المشروع الجديد الذي تحول فيه المثقفون (مثلهم مثل المهندسين والأطباء الممارسين) إلي مجرد تقنيين لايفكرون إلا في كيفية تنفيذ المشروع الذي يضعه السياسيون دون حق التفكير فيه أو مناقشته أو حتي التعرف عليه”…مجددا هل يفت ذلك في عضد عقول تجاوزت فرضيات واقع لاسند له سوي قناعات صناعه؟!……..لا أعتقد ذلك ومعي كثر.
ولكن..ماهو الباعث لتلك المقدمة المطولة؟
إن الفصام الناجم عن جموح التعبوي وعزلة المتعايش، ومايرتبط به من إنحسار لأطر الحشد المنتمي، يمكن رصده وقراءته في محتوي الموروث المعماري والعمراني للجماعات البشرية، فالعمارة بلا شك منتج إنساني، وثقت دوما لحراك الفرد ورؤية الجماعة، وعبر حقب التاريخ المتتابعة كانت أداة التوثيق الأولي والفاعلة لكل ماتضمنه الإرث الحضاري من تناقضات.. كانت الغاية والوسيلة ومن بعدهما الشاهد…ولأجل ذلك تعزي إشكالية الطرح..
لا أحد ينكر جدوي وأهمية الفكرة القديمة ـ الجديدة ـ للعاصمة الإدارية الجديدة، والتي تعد بحسب الجهات المعنية أحد أهم المشروعات القومية في وقتنا الحالي، علي أن أحد القضايا الراهنة ـ التي أثارت جدلا واسعا ـ هي تلك الصورة التي خرج بها ذلك المشروع إلي الوجود، والتي أعتمدت علي اللغوي أكثر من إعتمادها علي البصري، اللغوي الذي خرج علي الجموع في سياق سجالي يعمد إلي التضخيم ويركن إلي مصطلحات توثق للزهو والمبالغة؛ فمساحة المشروع تعادل مساحة سنغافورة…، وحديقة العاصمة أكبر مرتبن ونصف من الحديقة المركزية بنيويورك،.. وستة مرات حديقة هايد بارك بلندن،…والمدينة الترفيهية للمشروع أكبر 3.5 مرة من يونيفيرسال ستوديوز،..أضف لذلك أكبر مطار،…أكبر مسجد،…أكبر كنيسة،….وأكبر….وأكبر.. !!..في طرح لغوي أغفل الشق الإنساني للحلم، وأستبدله بمعاني تجنح للعلو والتماهي، وطبعي أن تتلاشي تدريجيا وإزاء ذلك مفردات الحديث عن جودة الحياه؛ الهدف الأساسي لنشأة المدن، فتخفت بواعث الإنتماء لدي العموم، وتتبدي قيم عدم الإكتراث واللامبالاه، ويفتقر الجهد وقتئذ لدعم الظهير المجتمعي المطلوب!!.
وللحق فإن العمارة من واقع فهم أهل الإختصاص ليست هكذا، ناهيك عن أن القيم التصميمية لجوانب التشكيل وصيغ التعبير الحاكمة للمنشأت التي تسابق عجلة الزمن تبدو شديدة التواضع، فلاهي ترتقي لموروث حضاري أحتضنته أرض امتد ميراثها الثقافي عبر سبعة ألاف عام، ولا هي تتفق وواقع قد تغيرت معالمه الثقافية، وتركت بصماتها علي رؤي وأفكار البسطاء قبل أصحاب الحظوة!!..فالنتاج يذكرنا بعجل بني إسرائيل أجوف الحيثية والكنه، يعلو صفيره ويتنامي صخبه!!..
لكن ماهي العمارة التي في سياق معرفتها تتبدي تلك الإشكالية؟.. والتي قد تبدو للبعض نوع من التماهي!!..، ودرب من دروب المبالغة!!…أيضا ماالمعني بالعمارة كلغة؟..وماعلاقة العمارة بلغة الخطاب؟وعلاقة كليهما بالنتاج؟..وكيف لمجمل ذلك أن يحدد طبيعة الإلتفاف والإستطفاف الجمعي الواجب خلف مشروع يفترض أن يوثق لأحد جوانب الحلم المصري؟!!..
العمارة هي حقيقة الوجود، يستدل بها علي شواهد الوجود،..في إطارها المطلق عمارة الكون وإعجازه، وفي توثيقها النسبي إجتهادات البشر ومسعاهم..نري فيها الوسيلة ونستقي من لغتها الهدف..هي أداة الغرس ومجمل نتاجه..بها يوثق للحضور ومنها يستدل علي كنه الحضور..صنعتها البغية وتبدت في إثرها الغاية..عرف الفراعنة في غموضها، والرومان في موضوعيتها، والإغريق في تماهيها،..احتضنت المسيحية، وروت عن الإسلام ..ولم يغب عنها التوثيق لما بعدهما..عرفها التاريخ وعرفته..باعثها الثقافة وديدنها الفلسفة..تحكي عن الزمان ويعد جزءا منها، ويستحضرها المكان ويغدو ركنا فيها ..صنعها الإنسان وصنعته ..تاقت إليها نفسه، وشغلت لغتها جوارحه، فكان جزءا منها، وكانت جزءا منه..ومرجع ذلك مجملا معضلة إسمها الثقافة!!.. فالعمارة دالة الثقافة..وهي إن لم تكن دالة الثقافة فهي الثقافة بعينها.
الثقافة بغية يتحدد في إثرها السلوك..والسلوك نتاج لتوق النفس لمقاصد الفعل..والفعل تحدده الغريزة ..والغريزة صناعة الحافز ..والحافز باعث لمحتوي الذات..ومحتوي الذات مخزون الثقافة آيان كان توجهها،..الثقافة مزيج قابل للحذف والإضافة ..ولأجل ذلك تمادي علماء الإجتماع في الإفراد لكل مايتعلق بالسلوك الثقافي تحت مسميات عدة..بدأت بالمزج وإنتهت بالصدام ..وبينهما عرفنا ثقافة الغزو وثقافة الهيمنة والثقافة السائدة وثقافة الأقليات وثقافة الذات وثقافة الآخر..بل لقد تماهت الثقافة حتي غدت مؤخرا بديلا للتكنولوجيا..والثقافة وإن كانت الباعث للفعل فهي أيضا أداة تفكيكه ..فهي الإطار الحاوي للأداء وهي الوسيلة للجدل الحافز لهدمه.
ودون إسترسال دعونا نتفق علي أننا لانستطيع أن نفصل بين عمارة ماضينا القريب ـ شديد القتامة ـ وماشابها من إرتجال وفوضوية ومابين سلوك الإنسان المصري ـ علي إختلاف إنتماءاته وأيدلوجياته ـ إلي الحد الذي يمكن من خلاله الإتفاق علي أن تجريف العقول الذي أتقن وسائله سدنة الماضي قد إنعكس ـ ومازال ـ علي معمار الواقع فكرا وممارسة بل ونتاجا..وتلك معضلة توثق لأفق فكري جامح يتوق للتجديد، علي أن أليات أداءه قد تجاوزها الزمان!!..ويحول بينه وبين إدراك تلك الحقيقة صخب لغوي يتمثل بعض من صور الماضي ويكرس لحراك موجه لارجعة فيه!!..وذلك مايتطلب كثير مراجعة.
فإن إتفقنا علي أن الإنسان هو الغاية فلابد من تجاوز مصطلحات مثل الأكبر والأضخم والأعظم، إلي مفردات أخري تقترن بالمعني بجودة الحياه، تقترب من قيم الإدراك التي غدت لاتعترف بالجغرافيا قيد ولا بالتاريخ موجه، القيم التي وثقت لها حقبة جديدة، لم تضن بالمعرفة علي أحد، ولم تركن بثقافتها لشريحة دون أخري، مفردات توثق لرؤية الجموع لكنه الحاجة، وحيثيات التعبير عنها،..ويكفي أن نعلم أن لغة الخطاب تلك قد لايستصيغها الصفوة لقاء رؤيتهم للحياه من منظور أخر يوثق للمعني بجودتها، وقد لا تروق أيضا للبسطاء فتحيد بهم عن المشاركة في الحلم…فلمن نبني إذن؟!!..
ذلك مبلغ العقل حال الحضور، ونقيضه يوثق للتغيبة، والتغيبة أحد صور الإنقياد، والإنقياد يستحضر الإيعاذ ويتجاوز المعني بالقيمة….وخلاصة القول أن العمارة قد غدت بمعطيات واقع لانملك أدواته لغة حوار، يتحدثها العامة والخاصة، ويتقن قراءة مفرداتها الغني والفقير،.. العمارة قد باتت أنا وأنت وهو وهم وأولئك ..فإن قصدناها فلاأقل من أن تلتقي رؤانا علي صدق ماهو متفق عليه ، وتنأي عن كل مايوثق لإغتراب حادث، غدا جزءا من حياتنا، بإعتبار أن الكلمة تبني رؤية، والرؤية توثق للحلم، وأحلام الأمم توثق لحيثياتها الجموع ..وكلنا يتفق علي أن هنالك فارق بين مايقال في الموالد وماتتضمنه الأمسيات الشعرية!!..